من حكم الصيام أنه وقاية للمجتمع لأن الصيام هو الورشة التي تصلح الضمير وما أحوجنا إلى هذا الضمير في عصرنا فإن كل ما نعاني منه سببه أزمة الضمير، أو كما نقول بلسان الإسلام - لأن الضمير كلمة أجنبية - المراقبة أو {الإحسَان أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاك}{1}

وهذه عبادة الصائم لأنه لا يراقبه في عمله إلا الله، فلو دخل في مكان وأغلق على نفسه وأخطأ فلا يحاسبه أحد إلا الواحد الأحد. فالصائم يتمرن على مراقبة الله في صيامه فإذا دام على هذه المراقبة راقب الله في صيامه وراقبه في الأكل والشراب، وراقبه كما قلت في الأخلاق فلا يصخب ولا يسب ولا يشتم

ويراقب أعضاءه وإذا أرادت أن تتحفز يقول لها إني امرؤ صائم، يذكر نفسه ويذكر أخاه الذي أمامه، يذكر نفسه حتى لا تتحرك أعضاءه بما يغضب الله، ويذكر زميله أو رفيقه الذي يتناقش معه حتى تخمد أعضاءه وتبرد جوارحه، فلا يفكر في إيذائه فهي مسكن إلهي يسكن غضب النفوس البشرية، وصفه طبيب البشرية الأعظم صلى الله عليه وسلم.

فإذا راقب الإنسان ربه وعلم أنه لو أفطر على لقمة حرام فلا فائدة من صيامه وتحرى المطعم الحلال، فلم يغش ولم يقبل الرشوة ولم ينافق ولم يداهن ولم يفعل الأفعال التي يتسم بها أهل الشقاق والنفاق بل يكون كما قال الله في شأن الملائكة الكرام {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم6
فيخرج من هذا الشهر وقد استقام في مقام المراقبة وهذا هو العبد الذي نحتاجه.

فإصلاح حال المجتمع الذي نحن فيه يتوقف على هذا، فلسنا محتاجين إلى أموال ولسنا محتاجين إلى مبان ولسنا محتاجين إلى مدارس ومستشفيات وإنما نحن محتاجون إلى أفراد امتلأت قلوبهم بمراقبة الله في الغدو والرواح، مثل هؤلاء يكيفون الأشياء ولا تكيفهم الأشياء، فلو وجد الطبيب الذي يراقب الله يستطيع أن يجعل المسجد عيادة ويستطيع أن يحول الشارع إلى عيادة ويستطيع أن يكشف في أي مكان لأنه يراقب الرحمن، أما إذا جهزنا المستشفى بالأجهزة الراقية ودخلها من لا ضمير ولا دين له فإنهم يعطلونها ليفتحوا عياداتهم، وهذا ما نعاني منه الآن.

إذا وجد المدرس الذي يراقب الله فإنه يستطيع أن يدرس في هذا المكان ويستطيع أن يدرس في الحديقة ويستطيع أن يدرس علي حافة الطريق كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إذا عدم هذه المراقبة ولم يكن عنده هذه المحاسبة فإنه عنده الإمكانيات ولا يكلف نفسه ولا يجهد نفسه حتى يوفر صحته وجسمه للعمل الذي يعمله في المنازل ولا يبارك الله في ماله ولا رزقه ولا في بيته ولا في أولاده ولكنه لا يشعر بذلك.

إذا توفرت هذه المراقبة للتجار لم نحتج إلى مباحث للتموين، بل إننا كلما أعددنا لائحة، أعدوا المخرج منها قبل صدورها، وكلما جئنا إليهم بمباحث، احتاجت المباحث إلى مباحث آخرين وهكذا، فمن أين المخرج إذاً؟ والله لا مخرج لنا إلا إذا دربنا أنفسنا وأمرنا أولادنا ودربنا أفراد مجتمعنا على أن يراقبوا الله ويعملوا ابتغاء وجه الله وقلنا لهم أن قولوا كما قال الله، أو قولوا قول الله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} التوبة105

والسبيل إلى هذا المخرج والذي يقوم بكل هذا العمل الصيام الصيام الصيام، فالصيام هو الذي يطهر المجتمعات من هذه المفاسد الأخلاقية وهذه الرذائل الاجتماعية التي عمَّت في مجتمعنا ولا نجد لها سبيلاً ولا نستطيع أن نفعل فيها قليلاً أو كثيراً لأننا نبحث عن حلها في غير كتاب الله وفي غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك تذكرون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوا وليسوا بينهم محكمة واحدة جزئية أو كلية أو استئنافية أو غيرها ولا نقط للشرطة ولا مصلحة للضرائب ولا مباحث للتموين ولا مباحث لتهريب المخدرات، لماذا؟ لأن كل واحد منهم كان عنده شرطي في داخله يراقبه ويؤنبه ويوبخه إذا أخطأ أو وقع في الخطأ، وأقسم الله بعزته وجلاله بهذا الجندي فقال {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} القيامة2

فمعك النفس اللوامة التي تظهر عند أي شئ يغضب الله أو أي حركة لا توافق شرع الله أو أي أمر ليس على هدى سنة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن والذي ليس معه النفس اللوامة لو أحطته من جميع الجهات بالقوانين والتعليمات واللوائح والتشريعات والجنود والهيئات فإنه بحيلته ومكره ودهائه يستطيع أن يفلت منهم

وقارن بين هذا وبين الذي في قلبه النفس اللوامة، كان يذهب بنفسه إلى رسول الله فيقول زنيت يا رسول الله فيقول: لعلك فاخذت. يقول: زنيت يا رسول الله، فيقول: لعلك قبلت. يقول: زنيت يا رسول الله، يقول هذا وهو يعلم أنه بذلك سيقع تحت طائلة العقاب الذى يحكم به الله، ويذهب الآخر فيقول سرقت، لماذا؟ حتى يريح نفسه من وخز ضميره ومن تأنيب نفسه اللوامة التي تؤلمه وتوبِّخه بالليل والنهار ولا يستقر له قرار إلا إذا علم أنه رجع عن هذا العمل وعن هذا الإصرار وتاب لله الواحد القهار {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف201

ومن هنا فالصيام وقاية ليس لها نهاية ولا نستطيع أن نتحدث عنها ولا عن بنودها في هذا الوقت القصير ولكن نكتفي بهذا القدر. قال صلى الله عليه وسلم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِلسَّموَاتِ وَالأَرْضِ أَنْ يَتَكَلَّمَا، لَبَشَّرَتَا مَنْ صَامَ رَمَضَانَ بِالْجَنَّةِ}{2}
وقال صلى الله عليه وسلم: {أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ بَرَكَةٍ فِيهِ خَيْرٌ يُغَشيكُمُ اللَّهُ فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ وَيَحُطُّ فِيهِ الْخَطَايَا وَيَسْتَجِيبُ فِيهِ الدُّعَاءَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلاَئِكَتَهُ، فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرَاً فَإنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ}{3}