اجتماع غير رسمي

Razz
القصة التي رويت في المطعم التوسكاني عام – 195 كانت عن رئيس الوزراء الليبي حين زار ولاية تكساس الأمريكية، بحثاً عن شركات للتنقيب عن البترول، أثناء المؤتمر الصحفي الذي أقيم لأجل ذلك تلقى السؤال التالي: " ما الذي يجعلك تعتقد بوجود بترول في ليبيا؟ ". عندها أجاب رئيس الوزراء كأنه كان يتوقع سؤالاً كهذا: " حسناً، أنتم قمتم بالتنقيب في العربية السعودية، حيث الشمس، الصحراء، الرمال والبدو، فوجدتم البترول، في ليبيا عندنا الشمس، الصحراء، الرمال كما عندنا البدو، لم يبق إلا البترول لنجده ". الضحكة التي رنت في تلك القاعة بولاية تكساس، كانت مشابهة بالتي رنت في المطعم التوسكاني بطرابلس، حيث كانت الإضاءة تسقط ناعمة على الأكواب الكريستالية، الملاعق والسكاكين الفضية، التطريزات الذهبية للأقمشة التي تغطي الطاولات. خمس شخصيات شبه أسطورية، كانت جالسة على كراسي تلك الطاولات، أعين زرقاء، شعر معدني بارد فوق الرؤوس الكبيرة المسؤولة عن المعضلات الكبرى، أظافر أصابعهم براقة، بدلات سوداء، أخرى رمادية مخططة، بربطات عنق نحيلة كرجال مكتب التحقيقات الفدرالية، الكلمات الهادئة تعقبها ضحكات ثملة بالنبيذ التوسكاني المعتق، الأجواء كانت شاعرية، موسيقى إيطالية تنساب برقة، الطباخ الإيطالي أعلن بأنه قدم أفضل وجباته " لم أستغرق هكذا في الإبداع منذ غادر إيتليو تروتسي " الابتهاج واللذة، المشروب الناعم كالضوء، اللامع على حواف السميكة للأكواب والأسطح البراقة في القاعة التي أخليت ليوم كامل، لأجل هذا الاجتماع المفصلي، شركات التنقيب الصغيرة، شركات كبرى، أمريكان، طليان، إنكليز وفرنسيس، يحادثهم سلام مراد الصحفي السابق والمتحدث باسم شخصية مجهولة من أفراد العائلة الملكية الليبية، تدور اتهامات، تتداول بعض الأسماء، إنما تكلفة الباهظة لتلك القاعة كانت مكفولة، كلها، ربما ورائها أشخاص في المناصب العليا فعلاً، مكتب رئيس الوزراء أو أحد الوزراء القابعين في الظل، ربما الناظر الملكي نفسه، صاحب الطموح الكبير. كان يجب التفاهم حول تلك الأشياء المتعلقة بالنسب والحصص. طلبات صغيرة أخرى. جشعة ربما، إنما لا بد منها لكي تشرق الشمس في الغد. الخواتم التي تلمع في يده، فضية، شبه متدين، ضحكته ليست عالية، كان زمناً قاسياً إنما الأمر روحي في النهاية، القدرة على الضحك، أعتاب الستين من العمر، قضى حتى الثلاثين طامحاً لكي يغدو صحفياً، معروفاً، نجح في نشر بعض المقالات الجيدة في مختلف الصحف الأوروبية، يتحدث خمس لغات حية إلى جانب العربية والشركسية – شعبه المهجر ومفردات كاملة من التباوية، إنها ميزة يفاجئ بها بعض زوار الناظر الملكي حين يشرع في الحديث بتلك اللغة شبه السرية، ذات مرة تم الإعلان بأنه أحد المشاريع المهمة للحكومة الفاشستية في المستعمرة، باعتباره الجيل الأول الذي ظهر تحت نظر الاستعماريين، ربما لا يزال كذلك، يفكر غالباً، بكونه رفيق الناظر الملكي الأقرب، المتحدث باسمه عند الشركات الوافدة، صاحب اللغة البراقة تنساب من لسانه العبارات الأنيقة التي تجعل الناس يقتنعون، هكذا يصفه الناظر الملكي، لا يود أن يتنازل عنه، التنازل الوحيد هو ما يجب أن يحدث في تلك الجلسة، الحصول على عمولات جيدة نسب محترمة، كان الحديث هادئاً يدور حول الأنبذة التي تركها الاستعماريون، أقبية كاملة من الأنبذة الممتازة، يقال بأن هناك مخزن كامل يمتلكه التوسكاني به قرابة الألف زجاجة، عمرها مئة سنة، كانت ضمن مقتنيات القناصل الأوروبيين في طرابلس، إنها بحوزة الطباخ التوسكاني، رفع المندوب الأمريكي كوبه ثم قال بفخر:

" هكذا نقضي على البداوة في دولة أخرى – ابتسم ناظراً بمأسوية شبه مفتعلة إلى الضوء على كوبه الكريستالي ثم أضاف –: إنها خسارة نوعاً ما، وداعاً الليالي العربية، فلنستعد لاختفاء النخيل والمهاري والمواقد أمام الخيام في الليالي الصحراوية، الجمال بلا حدود ".
" المهمة الأساسية هي جعل الحداثة طابعاً عاماً – قال الإنكليزي نصف ثمل – استقرار شركاتنا في الصحاري، التنقيب، البحث عن الذهب الأسود، لا بد أن يسبقه طموح شعبي، توقعات جيدة، المزاج العام الداعم والمشجع، تلك هي الميزة الأساسية، أن يعرف الناس بوجود مستقبل جيد ينتظرهم هنا ".

عندها قال الإيطالي – صاحب شركة صغيرة:

" هناك قصة – قام من كرسيه حاملاً كوبه اللامع – يحكي مندوب احدى الشركات بأنه نزل ضيفاً كريماً على أحد الليبيين في الصحراء، الكرماء المشهورين بحسن الضيافة، استضاف مندوبنا بشكل حسن، حتى إنه وضع علفة جيدة لسيارته الجيب أمام الخيمة ".

نكتة جيدة قابلها الجميع بالضحك، في حين جلس الإيطالي، أضطر لأن يسمع الجواب الذي بدا هادئاً، غاضباً، متناقضاً بشكل مدهش:

" إنها أسطورة – قال سلام مراد الليبي – الإيطاليون جعلوا الشعب الليبي مثقفاً جداً فيما يخص الآليات ".

ضوء كالدمعة، قطرة نبيذ أفلتتْ من الإيطالي الطيب، تركتْ بقعة حمراء على القماش المطرز فيما كان التوسكاني العجوز يضحك من وراء الحاجز الرقيق، قال لمن معه: " الليبي لا ينسى، الإيطالي لا ينسى، إنها مصيبة، إنها معضلة وصفة مستعصية ".

" هذا جزء من ميراث كبير – أكد الأمريكي – يجب إلغاؤه، الصورة الخاطئة، ثقافة الكراهية، الأوروبيون يجب أن يدركوا مدى ضرورة خلق صورة جيدة عن أنفسهم، لا يمكن أن تخرج من الباب المحطم غازياً ثم تعود صديقاً من النافذة، لا يمكن، يجب أن يقتنع الشعب الليبي بكم، أفضل أسلوب هو احترام ثقافته ".

الإيطالي بدا حانقاً، لكنها وجبة جيدة، لجعل الأرواح تتآلف، لذا قال الإيطالي مقتنعاً: " لا شك إن الاحترام بداية كل شيء، إنما لا يمكن حدوث هذا إلا بمساعدة الملك نفسه، إن له كلمة مسموعة بين الشعب، خطاب واحد يساعد كثيراً ".

الشعور بالقوة والسيطرة، كأنه رجلنا في العاصمة، تطلع إلى أطراف كمه، كانت بيضاء تماماً كجناحي نورس نظيف وأنيق، نورس تعلم أن يغدو أرستقراطياً، بالرغم كرهه للأمر إلا أنه يتوجب أن يبحث عن تلك الثغرات، التصدعات في الجدران، ثم يشرع في التركيز عليها، ليجعلها أكثر اتساعاً وتشققاً، نبرته لا بد كانت كالكابوس بالنسبة للإيطالي:

" بالنسبة للملك، لا يمكنني إدعاء بأنه سيفعل شيئاً، لكنني أدرك جيداً من خلال بعض المعارف المحيطين بالملك بأن ما حدث هو الآتي: يتوجب على الشركات أن تعمل على تحسين صورة العالم بالنسبة للمواطن الليبي، بالتالي تتعزز مكانة الملك، صورته الشخصية التي حاول البعض النيل منها خلال فترات طويلة من النضال ضد الاستعمار الإيطالي، أليس لأجل هذا تم إعفاءكم من الجمارك لكي يجد ما يساعد به شعبه؟ ".

" بالنسبة للأمريكان – لفت الأمريكي نظر الجميع حول الطاولة – قدمت المساعدات الدائمة والجيدة للشعب الليبي طوال فترة صعبة، حكومتنا لم تكن تطمع بنيل أي شيء بالمقابل ".

كانت تلك جرعة جيدة، استحق عليها الأمريكي رشفة كبيرة من النبيذ، حين قدم له النادل اليوناني تلك الجولة، بأناقة مهيجة للأعصاب بطريقة طفولية، كان شعوره الغامض بأنه طفل مرة أخرى، يزداد قوة، هذا يكتم على صدره، يفقده الشعور بقدرته على العيش حراً كنورس بحري، انقطاع الحلم، يطالع إلى لمعان الضوء على الأشياء فوق الطاولة، إلى الأزرار اللامعة في أكمام أصدقائه الجائعين للصفقات الكبيرة، يريدونها على طبق ذهبي دون مقابل، مهمته إيجاد الظروف العكسية، انتزاع اللقمة من فم الذئب، كما يقول الطليان كل يوم مئات المرات، من فم الذئب، لكي يؤكدوا بأنهم بخير.

" لهذا الشعب الأمريكي محبوب في كل مكان – قال سلام فيما هو يزداد شعوراً بالضيق وتلاشى المنطق في ذهنه – طالما بقيت حكومتها على هذا النحو، تساعد دون طلب إتاوات، تدرك قيمة تاريخ الآخرين، حقوق الناس أعلى وأكثر أهمية، طلب التنازل عن حقوق ما لأنها ساعدت في الأوقات الأزمات، تضع في الأذهان شخصية أمريكي كما في الكوخ العم توم، أنا لم أكمل قراءة الكتاب، البشاعة هي دوماً في نكران حقوق الآخرين، لدواعي مضللة ".

الخسارة دوماً هي في الحديث، لا يمكن توقع ما يقوله الآخرون مثلاً، عندها تغدو التقاليد الدبلوماسية مساءلة معقدة جداً، لم يكونوا دبلوماسيين، لكن إحساساً طاغياً بذلك يجتاحهم، لولا الأطباق التوسكانية على الطاولة مع النبيذ، لولا تلك عبارة: لقاء غير رسمي، التي هي عنوان الجلسة، لظنوا بأنهم يحادثون مسؤولاً في الحكومة، وزيراً ربماً، الأمريكي قال متوخياً الحذر، أن يفقد ما كان يمتلكه أصلاً، كما يفعل الفرنسي الجالس بصمت، متأكداً من أن موقفه أقوى من موقف الحكومة الليبية، فالقبائل الجنوبية تقف في صفه، بل تستند على فرنسا لنيل حقوقها من الغيلان في الشمال، ضربة معلم تلك التي حققتها فرنسا، إنما تصرف رجالات هذه الدولة الجديدة يوحي بالخطر الوشيك القادم، فقدان تلك التوقعات المرسومة للبلاد، عدم قدرة السيطرة على سياسيها، إنهم يقارنون أنفسهم بالدول القائمة منذ زمن طويل، يتعاملون كأنهم المنتصرين في الحروب الكبرى، كأنهم انتزعوا استقلالهم بأيديهم، الاستقلال الذي يرى بعض أكبر مسؤوليهم بأنه متعجل، ينبغي مراجعته في تصويت آخر. الأفكار التي طافت في ذهن الأمريكي أفصح عنها لاحقاً مع الفرنسي، الذي شرح أسلوب التعامل مع شخصيات مثل التي تحكم ليبيا، القدرة على التحكم بمصادر خوفهم، إعادة الماضي أمام أعينهم الليبيون يخشون من الماضي خشية الأوروبيون من الحاضر، من الشيوعية، إن الماضي هي الشيوعية الليبية، العودة إلى التشرد، القتال، الجوع والتشتت، واللا سلام، فرنسا تعرف كيف تتعامل مع هذا، لذا لن تكون خاسرة مطلقاً في مشوارها.

" لا يمكن – هتف الأمريكي ضارباً بيده بحسم على الطاولة، كأنه يقلد زعيماً للعصابة في غابات أمريكا اللاتينية – لا يمكن لأحد أن يطلب تنازلاً عن الحقوق – لانت نبرته بعد ذلك لتصل لحدود الاستعطاف في تمثيل باهر – إنما فقط مساعدة بالمقابل حتى يكون بوسعنا العمل بشكل جيد ".

وافق الإيطالي فوراً، مدافعاً عن فكرته:

" بالفعل، هذا صحيح ".

سلام قال:

" لأجل هذا نحن هنا، إيجاد الأسلوب الأمثل لتنمية البلاد ".

" لن يكون هذا صعباً – على سبيل المزاح، في مشاركة مفاجئة أعلنها الفرنسي – السماح بفتح الأسواق والتنقل السهل عبر الحدود، وكالات تجارية أكثر، فروع، فرص أفضل، استثمار، شركات بلا تعقيد أو تقييد، هذا كفيل بخلق الكثير من فرص العمل ".

ضربة معلم !

" كل ذلك لا يمكن أن ينجح دون إقناع الناس بحسن النوايا – قال سلام متمسكاً بالضغط الوحيد الذي يمتلكه إزاء تمسك تلك الدول بحقوقها من الانتصار لذا قال –: فالاستعمار الإيطالي كان يعرض ذات الوعود، إنما لم يكن الشعب ليرضى مطلقاً، الليبيون يهتمون بأسلوب الدعوة للعزومة، أكثر من العزومة نفسها ".

هتف الأمريكي بحماس:

" هذا تجده في كثير من الدول، مصر، السعودية بالمناسبة نحن ننجح هناك ".

فرد سلام:

" أنت بهذا لا ترى خصوصية للشعب الليبي ".

" الليبيون يفكرون كثيراً في الماضي، أحياناً يجب التفكير أكثر في المكاسب ".

لخص الإيطالي كل المشكلة.

" ربما لأن الماضي نفسه جاء بذات الأسلوب المتعلق بالمكاسب ".

هكذا رد سلام.

" لكننا لسنا مصرف روما آخر ".

أضاء الإيطالي نقطة مهمة.

" كما إننا لسنا بازاراً شرقياً – حدة الصوت جعلت الطاولة ترتعش – قبل كل شيء يجب أن تكون النوايا الحسنة على الطاولة، طاولة كل مواطن ليبي، حن تدخلون الصحراء، لا بد أن يكون هناك مشروعاً على الأقل لفائدة الناس – لحظة هدوء ثم – سمعتُ الملك نفسه يتحدث عن هذا لإعطاء الموافقة على العمل، كما إنكم تعرفون جيداً التباشير الممتازة بوجود البترول الأكيد، الخاسر الوحيد من عدم الموافقة هم أنتم حضرات السادة ". كانت تلك إضاءة المفاجئة أكثر تنويراً للموضوع، نفاذ الصبر، اختفاء الدبلوماسية، مطلقاً لم يكن هكذا من قبل حتى إنه شرب جرعة كبيرة من كوبه، دون الاهتمام بأناقة تحركاته السابقة، النورس الأنيق يغرق ريش جناحيه في الوحل.

" لندع مساءلة الخسارات جانباً، إنها ليست طرحاً مقبولاً أو محتملاً، لنتحدث عن المكاسب الجيدة، ما هي طبيعة المشاريع مثلاً؟ ".

هكذا سأل الإنكليزي بهدوء.

" الأمر بسيط – أجاب سلام، متجاهلاً إحساسه الأكثر بالضيق – إن دخلتم إلى الصحراء أتركوا بصمة ".

" بصمة؟ ".

تساءل أحدهم.

" مشروع زراعي مثلاً ".

وضح سلام.

" مشروع زراعي؟ ".

نبرة تساؤل من ذات الشخص مع اختفاء الأضواء واللمعان.

" يعرف المواطن عندها بأنكم هنا لفعل أكثر مقدسات الدين – قال سلام محاولاً التقاط أنفاسه كأنه سيعلن عن فائز ما – قنابلكم التي أسقطتْ الأشجار خلال حروبكم، تعيد أيديكم وأموالكم زراعتها مجدداً، فالوصية الأخيرة قبل يوم القيامة، هي توجب أن يقوم المسلم بالزراعة ".

قال الأمريكي:

" لا يبدو الأمر صعباً ".

" بالنوايا الحسنة – قال وهو يهم بالوقوف – لا شيء سيكون صعباً، لقد فرغتْ أقداحكم، النبيذ التوسكاني جيد، سأفتح زجاجة أخرى ". كانت الزجاجة تكلف مئتي دولار، رئيس الوزراء الليبي راتبه مائة وخمسين دولاراً.

طلبوا منه الحديث عن الحصص والعمولات فتحدث عن الشعب والاحتياجات. قام من مقعده، لا شيء جديد، القديم نفسه، كالنورس المقيد، شيء ما يشده إلى مقعده، أحدهم أثنى على مهارته من قبل، أي مهارة تلك التي يجب الإثناء عليها، أحس دوماً بأن مجرد الحديث قد يجعل منه محامياً ناجحاً، إنما ليس كما يدعون، فهو حتى ليس بصحفي جيد، مقالة واحدة طويلة، قصة نادرة كتبها لأجل أسباب لم تكن صحفية خالصة، شيء ما يشده، لكنه قاوم بصمت، هل أغمض عينيه؟ إحساس غامض بالتيه اللا جدوى، ذات مرة وجد خريطة إلى الكنز المدفون، اتضح فيما بعد بأنها ليستْ إلا خريطة لأجل التيه الأبدي، خريطة عكس الخرائط لم تأخذه إلى أي مكان حقيقي أو فعلي. كان يستمع إلى حديث مبهم عن المشاريع الحقيقية المزعومة، كأنه غطس في الماء فجأة، أحس بخطواته الطائشة، كفقاعات هوائية، ثقل بزته الأنيقة، حين مد يده إلى ربطة العنق، حاول إرخاء الربطة قليلاً ثم حمل كوباً في اتجاهه إلى المطبخ، عينين جليدتين ظهرتا له من وراء احدى الستائر كانتا تراقبانه، لطالما فعلت تلك الأعين الجليدية أكثر من ذلك، الأنف المدبب، المعقوف، الذقون المعوجة الحليقة، التي تشبه كعوب العذارى، لم يكن يحتمل تلك الأعين، لكنه دوماً كان مضطراً إلى التحديق فيها، الضيق، قبل سنوات كان الأمر مريحاً، عينيه الجليديتين، القلب الشجاع في صدره حين كان ينبض لأجل الحياة، أراد أن يستعيد ذلك، النبض لأجل الحياة، صاحب العينين أشار إليه فيما هو يفقد السيطرة تماماً كدب قطبي يحتضر.

حين أحس بأنه يتجه ناحية، طاولة أخرى، رؤساء الشركات ظنوا بأنه رأى صديقاً ما، لكنهم شكوا في الأمر قليلاً وببطء، حين بدأ يجلس على كراسي الطاولات الأخرى ثم يقوم مجدداً حاملاً الأكواب الفارغة، باتجاه النافذة المفتوحة، قبل أن يستفيقوا من افتراضاتهم الخاطئة، كان الصحفي المخضرم قد سقط على وجهه فوق إحدى الطاولات، مغشياً عليه. تكسرت الأكواب، لكنها لم تكف على اللمعان بإشراق. سمع صوت تكسر الجليد ببطء كالتصدع القديم، حين انهار مع تلك الكلمات المبهمة، كلمات طائشة ثم شاهد الأعين الجليدية، مع امتداد السقف المتصل بالنوافذ العريضة الجانبية المغزوة بالنجوم البعيدة، فكر بأنه الجمال بلا حدود، الأكواب الكريستالية، تكسرت مع الأطباق الفضية والملاعق اللامعة بالضوء الشارد، ابتسم مردداً بصوت شبه هامس مليء بالإيمان: " الجمال بلا حدود، الجمال بلا حدود ".

تلك الجملة الأخيرة، غدت النكتة المتداولة في مكاتب الدولة !

Embarassed