تأبيد الزواج شرط لصحته

يوسف أباالخيل

جاء الإسلام حاثاً على الصدق في المعاملات جميعها، وجعل هذا الصدق من أهم شروط العقود التي تجمع بطبيعتها بين أكثر من طرف، إذ أوجب على كل طرف من أطراف العقد أن يكون صادقاً مفرغاً وسعه في إعطاء المعلومات الضرورية التي تكفل استمرار العقد،

وبالتالي فإن إخفاء أي طرف من أطرافه أية معلومة تتعلق بانعقاد العقد يعرضه للبطلان من ناحية مضمونه على الأقل.

من أهم العقود التي شدد الإسلام النكير على الناكثين لشروطها بعد انعقادها، أوالمدلسين فيها أثناء تأسيسها "عقد الزواج" الذي يؤكد الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه "الفقه الإسلامي وأدلته" في "فصل تكوين الزواج" على أن من شروط صحته أن تكون "صيغة الإيجاب والقبول بين طرفي الزواج مؤبدة غير مؤقتة" فإن حُدِّدَ الزواج بمدة بطل،بأن يكون بصيغة التمتع مثل: سأتمتع بك إلى شهر كذا (وهذا ما يرمز إلى زواج المتعة) أو التوقيت إلى مدة مجهولة(وهو ما يرمز إلى الزواج بنية الطلاق).

والمعتمد عند معظم المذاهب الفقهية وخاصة منهم الحنابلة، أن نية الطلاق بعد مدة، تُبطل العقد كالتصريح بذلك، وبغض النظر عن اختلاف الفقهاء في بطلان أوعدم بطلان هذا النوع من عقود الزواج، مع اتفاقهم على أنه عقد منقوص، إلا أن المعول عليه في تقرير بطلانه يرجع في تقديري إلى أنه عقد أسِّس على غش وتدليس وكذب على المرأة، مما يجرد العقد من أهم شروطه التي يقوم عليها، وهو نية "تأبيد/استمرار" الزواج.

ورغم ما نتشدق به كثيراً من مقولات لا تخرج في معظمها عن ادعاء سبقنا مواد حقوق الإنسان ذات المنشأ الغربي بآلاف السنين، بمراعاتنا لحقوق الإنسان و المرأة بشكل خاص ،إلا أننا في واقعنا العملي، ولبعد المسافة بين النظرية والتطبيق في ثقافتنا العربية، لا نجد حرجاً من التشريع لما يتحايل على تلك الحقوق، بل ويخرمها ويقفز عليها من أساسها، خاصة إذا كانت تلك الحقوق تتعلق بالحلقة الأضعف -المرأة -.

وإذا كانت مثل هذه النوايا الخفية من جانب الزوج مما يستحيل رصده وتبينه أثناء إبرام العقد، وبالتالي فمن المستحيل مراعاته كأحد موانع صحة شروط الزواج من قبل العاقد، مما يجعل الأمر يرجع في النهاية إلى ضمير هذا الزوج ،إلا أن من الخطورة بمكان التشريع لمثل تلك النوايا المبطلة له من جانب الفقهاء أو المفتين، والذي تمثل فيما بدأ يصدر منذ فترة من فتاوى تحلل الزواج بنية الطلاق ، مع إخفاء هذه النية عن الزوجة أثناء إبرام العقد، بل وصل الأمر مؤخراً بأحد فضلائنا إلى الفتوى بأنه "يجوز للمبتعث الزواج من بلد الابتعاث بنية الطلاق إذا خشي المبتعث على نفسه، على ألا يخبر الزوجة بنيته" وهنا لم يكتف صاحب الفضيلة بالتشريع ل"جواز" إخفاء الزوج نيته طلاق زوجته مستقبلا،بل إنه زاد على ذلك ب "إيجاب" هذا الإخفاء متى ما أقدم الطالب المبتعث على الزواج من البلد الذي سيذهب إليه!!! وهنا نكون قد ضاعفنا " تشريع" التدليس والغش مرتين، أولاهما: تسهيل أمره داخل محيطنا الإسلامي كأحد أهم المؤشرات التي تؤكد نظرتنا الدونية للمرأة، وثانيتهما: أننا نقلنا تدليسنا وغشنا وكذبنا ليكون "ديدن" تعاملنا مع الآخر غير المسلم، مخالفين بذلك أهم ما حاول القرآن تربيتنا عليه من صدق التعامل مع الجميع،عدونا قبل صديقنا،فقد ذم الله تعالى من يخالف فعلُه قولَه بقوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وأية جريرة يخالف فيها الإنسان قوله فعله، أكبر وأعظم عند الله من أن يعقد الرجل على امرأة، مع " تبييت " نية طلاقها في أية لحظة؟ إذ لو علمت المرأة بمثل تلك النية لما وافقت على الزواج مطلقا، ومن العجيب أننا ظللنا ردحاً من الزمن نثرب على أحد المذاهب الإسلامية تشريعه ما يعرف ب" زواج المتعة" وكنا نصمه حينها ب" الزنا المقنع" وهذا الزواج - أعني زواج المتعة - على سوئه وظلمه للمرأة ومخالفته لأبسط مقاصد الإسلام من الزواج، إلا أنه في جانب منه على الأقل - وهذا لا يعني أبداً التهوين من شأنه أو الدعاية له إلا أننا نستحضره هنا على سبيل المقارنة مع الزواج بنية الطلاق ليس إلا - أهون مما يشتمل عليه هذا الأخير من ظلم وغش وتدليس للمرأة، ففي ما يسمى ب" زواج المتعة" تكون مدة الزواج معلومة للطرفين وللزوجة بالذات، فلا تترتب عليه أية مشروعات أو توقعات، أما في ما يعرف ب" الزواج بنية الطلاق" فإن نية الطلاق فيه معلومة للزوج فقط ، وله الحق بإخفائها عن المرأة بل يجب عليه - وفقاً للفتوى الأخيرة الخاصة بالمبتعثين - إخفاء تلك النية عن زوجته، ولا أعتقد أن أية امرأة مهما استبدت بها نوائب الدهر وتصرمات الأيام ستوافق على أن تكون مجرد وعاء "مؤقت" لشهوة الرجل، فجل ما ترجوه الزوجة من الزواج هو الاستقرار والحماية والستر وتكوين أسرة، وكل هذه الأمور منتفية في تلك الصور من عقود الزواج سواء أكان متعة أم بنية الطلاق.